فصل: تفسير الآية رقم (29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: ما كان لمشركي النفوس الأمارة {أن يعمروا مساجد الله} وهي القلوب وهم مصرون على ما جبلوا عليه من التمرد وتعبد الهوى.
{حبط أعمالهم} التي صدرت عنهم رياء وسمعة {إنما يعمر} القلوب {من آمن بالله واليوم الآخر} صدق بأن المقصود والمعبود هو الله، وعمل لنيل السعادات الأخروية وأدام المناجاة مع الله بصدق الطلب، وزكى نفسه عن الأخلاق الذميمة ولم يخف فوات الخطوط الدنيوية وإنما يخاف فوات الحقوق الإليهة.
{سقاية الحاج} خدمة هذه الطائفة للأغراض الفاسدة {وعمارة المسجد الحرام} الأعمال الموجبة لعمارة القلوب إذا كانت مشوبة بالرياء والهوى {لا يستوون عند الله} الطالبون والبطالون {والله لا يهدي القوم الظالمين} الذين يضعون الأعمال الصالحة في غير موضعها {الذين آمنوا} أي القلوب المؤمنة {وهاجروا} أي الأرواح المهاجرة إلى القوالب {وجاهدوا في سبيل الله} الجهاد الأكبر {بأموالهم وأنفسهم} ببذل الموجود والوجود جميعًا {يبشرهم ربهم} بعد الخلاص عن حبس الوجود بتجلي صفات لطفه وجنات الشواهد والكشوف {إن الله عنده أجر عظيم} أي من وصل إلى مقام العندية فالله يعظم أجره {لا تتخذوا آباءكم} الآيتان.
فيهما إشارة إلى أن آثر محبة المخلوق على محبة الخالق فقد أبطل الاستعداد الفطري لقبول الفيض الإلهي.
{ويوم حنين} أي حين حنت قلوبكم شوقًا إلى لقاء ربها وحسبتم أنكم تبلغونه بكثرة الطاعات، وضاقت عليكم أرض الوجود ثم أعرضتم عن الطلب إذ احتجبتم بحجب العجب مدبرين إلى عالم الطبيعة الحيوانية {ثم أنزل الله سكينته} هي واردات ترد على الأرواح والقلوب فتسكن إلى ربها على رسول الروح وعلى القلوب المؤمنة {وأنزل جنودًا} من المواهب الربانية وعذب النفوس المتمردة باستعمالها في أحكام الشريعة وآداب الطريقة {ذلك جزاء الكافرين} أي علاج النفوس المتمردة ثم يتوب الله من بعد ذلك العلاج بجذبة {ارجعي}، {إنما المشركون} النفوس العابدة للدنيا والشيطان والهوى {فلا يقربوا} القلب {بعد عامهم هذا} وهو حالة البلوغ وجريان قلم التكليف على الإنسان، نهى القلوب حينئذ عن اتباع النفوس وأمرها بقتالها ومنعها عن طوافها لئلا تنجس كعبة القلب بنجاسة شرك النفس وأوصافها الذميمة {وإن خفتم عيلة} حظوظًا يستلذ بها عند اتباع النفس {فسوف يغنيكم الله} بعد انقطاع تصرفات النفس عن القلب بالواردات الربانية والكشوف الروحانية {إن الله عليم} بمستحقي فضله {حكيم} فيما دبر من قتال النفوس. اهـ.

.تفسير الآية رقم (29):

قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان ذلك موضع تعجب يكون سببًا لأن يقال: من أين يكون ذلك الغنى؟ أجاب بقوله: {قاتلوا} أي أهل الأموال والغنى {الذين لا يؤمنون بالله} أي الذي له جميع صفات الكمال إيمانًا هو على ما أخبرت به عنه رسله، ولو آمنوا هذا الإيمان ما كذبوا رسولًا من الرسل، وأيضًا فالنصارى مثلثة وبعض اليهود مثنية {ولا باليوم الآخر} أي كذلك، وأقل ذلك أنهم لا يقولون بحشر الأجساد {ولا يحرمون ما حرم الله} أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله {ورسوله} أي من الشرك وأكل الأموال بالباطل وغير ذلك وتبديل التوراة والإنجيل {ولا يدينون} أي يفعلون ويقيمون، اشتق من الدين فعلًا ثم أضافه إلى صفته إغراقًا في اتخاذه بذلك الوصف فقال: {دين الحق} أي الذي أخذت عليهم رسلهم العهود والمواثيق باتباعه، ثم بين الموصول مع صلته فقال: {من الذين} ودل على استهانته سبحانه بهم وبراءته منهم بأن بني للمفعول قوله: {أوتوا الكتاب} أي من اليهود والنصاري ومن ألحق بهم {حتى يعطوا الجزية} أي وهي ما قرر عليهم في نظر سكناهم في بلاد الإسلام آمنين، فعله من جزى يجزي.
إذا قضى ما عليه {عن يد} أي قاهرة إن كانت يد الآخذ او مقهورة إن كانت يد المعطي، من قولهم: فلان أعطى بيده {وهم صاغرون} ففي ذلك غنى لا يشبه ما كنتم فيه من قتال بعضكم لبعض لتغنم ما في يده من ذلك المال الحقير ولا ما كنتم تعدونه غنى من المتاجر التي لا يبلغ أكبرها واصغرها ما أرشدناكم إليه مع ما في ذلك العز الممكن من الإصلاح والطاعة وسترون، وعبر باليد عن السطوة التي ينشأ عنها الذل والقهر لأنها الآلة الباطشة، فالمعنى عن يد قاهرة لهم، أي عن قهر منكم لهم وسطوة بأفعالهم التي أصغرتهم عظمتها وأذلتهم شدتها، قال أبو عبيدة: يقال لكل من أعطى شيئًا كرهًا عن غير طيب نفس، أعطاه عن يد. انتهى..
وعبر بعن التي هي للمجاوزة لأن الإعطاء لا يكون إلا بعد البطش المذل، هذا إذا أريد باليد يد الآخد، ويمكن أن يراد بها يد المعطي، وتكون كناية عن النفس لأن مقصود الجزية المال، واليد أعظم أسبابه، فالمعنى حتى يعطي كل واحد منهم الجزية عن نفسه. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم المشركين في إظهار البراءة عن عهدهم، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام، وأورد الإشكالات التي ذكروها، وأجاب عنها بالجوابات الصحيحة ذكر بعده حكم أهل الكتاب، وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية، فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط، ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{عزير ابن} بالتنوين مكسورة للساكنين: عاصم وعلي وسهل ويعقوب. الباقون: بغير تنوين {يضاهئون} بالهمز. عاصم. الآخرون {يضاهون} بحذف الهمزة.
{أن يطفوا} و{ليواطوا} بحذف الهمزة فيهما. يزيد وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة {اثنا عشر} بسكون العين: يزيد والخزاز {إنما النسي} بالتشديد: ورش من طريق النجاري وحمزة في الوقف. الباقون: بباء بعدها همزة.
{يضل} بضم الياء وفتح الضاد: علي وحمزة غير العجلي وحفص وخلف لنفسه.
{يضل} بضم الياء وكسر الضاد: العجلي وأوقية ورويس. الباقون {يضل} بفتح الياء وكسر الضاد.

.الوقوف:

{صاغرون} o {المسيح ابن الله} ط {بأفواههم} ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف {من قبل} ط {قاتلهم الله} ج {يؤفكون} o {ابن مريم} ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون حالًا واستئنافًا.
{واحدًا} ج لأن ما بعده يصلح ابتداء ووصفًا {إلا هو} ط {يشركون} o {الكافرون} o {كله} لا لتعلق لو بما قبله {المشركون} o {عن سبيل الله} ط {في سبيل الله} لا لتعلق الفاء {أليم} o لا أي في يوم.
{وظهورهم} ط {تكنزون} o {حرم} ط {يقاتلونكم كافة} ط {المتقين} o {فيحلوا ما حرم الله} ط {أعمالهم} ط {الكافرين} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى ذكر أن أهل الكتاب إذا كانوا موصوفين بصفات أربعة، وجبت مقاتلتهم إلى أن يسلموا، أو إلى أن يعطوا الجزية.
فالصفة الأولى: أنهم لا يؤمنون بالله.
واعلم أن القوم يقولون: نحن نؤمن بالله، إلا أن التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة، والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه فأما الموجود الذي لا يكون جسمًا ولا حالًا فيه فهو منكر له، وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالًا في جسم، فحينئذ يكون المشبه منكرًا لوجود الإله فثبت أن اليهود منكرون لوجود الإله.
فإن قيل: فاليهود قسمان: منهم مشبهة، ومنهم موحدة، كما أن المسلمين كذلك فهب أن المشبهة منهم منكرون لوجود الإله، فما قولكم في موحدة اليهود؟
قلنا: أولئك لا يكونون داخلين تحت هذه الآية، ولكن إيجاب الجزية عليهم بأن يقال: لما ثبت وجوب الجزية على بعضهم وجب القول به في حق الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق.
وأما النصارى: فهم يقولون: بالأب والابن وروح القدس؛ والحلول والاتحاد، وكل ذلك ينافي الإلهية.
فإن قيل: حاصل الكلام: أن كل من نازع في صفة من صفات الله، كان منكرًا لوجود الله تعالى، وحينئذ يلزم أن تقولوا: إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود الله تعالى، لأن أكثرهم مختلفون في صفات الله تعالى ألا ترى أن أهل السنة اختلفوا اختلافًا شديدًا في هذا الباب، فالأشعري أثبت البقاء صفة، والقاضي أنكره، وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة، والباقون أنكروه، والقاضي أثبت إدراك الطعوم، وإدراك الروائح، وإدراك الحرارة والبرودة، وهي التي تسمى في حق البشر بإدراك الشم والذوق واللمس، والأستاذ أبو إسحاق أنكره، وأثبت القاضي للصفات السبع أحوالًا سبعة معللة بتلك الصفات، ونفاة الأحوال أنكروه، وعبد الله بن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمرًا ولا نهيًا ولا خبرًا، ثم صار ذلك في الإنزال، والباقون أنكروه، وقوم من قدماء الأصحاب أثبتوا لله خمس كلمات، في الأمر، والنهي، والخبر، والاستخبار، والنداء، والمشهور أن كلام الله تعالى واحد، واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور أم لا؟ فثبت بهذا حصول الاختلاف بين أصحابنا في صفات الله تعالى من هذه الوجوه الكثيرة، وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق في صفات الله تعالى، فأكثر من أن يمكن ذكره في موضع واحد.
إذا ثبت هذا فنقول: إما أن يكون الاختلاف في الصفات موجبًا إنكار الذات أو لا يوجب ذلك؟ فإن أوجبه لزم في أكثر فرق المسلمين أن يقال: إنهم أنكروا الإله، وإن لم يوجب ذلك لم يلزم من ذهاب بعض اليهود وذهاب النصارى إلى الحلول والاتحاد كونهم منكرين للإيمان بالله، وأيضًا فمذهب النصارى أن أقنوم الكلمة حل في عيسى، وحشوية المسلمين يقولون: إن من قرأ كلام الله فالذي يقرؤه هو عين كلام تعالى، وكلام الله تعالى مع أنه صفة الله يدخل في لسان هذا القارئ وفي لسان جميع القراء، وإذا كتب كلام الله في جسم فقد حل كلام الله تعالى في ذلك الجسم فالنصارى إنما أثبتوا الحلول والاتحاد في حق عيسى.
وأما هؤلاء الحمقى فأثبتوا كلمة الله في كل إنسان قرأ القرآن، وفي كل جسم كتب فيه القرآن، فإن صح في حق النصارى أنهم لا يؤمنون بالله بهذا السبب، وجب أن يصح في حق هؤلاء الحروفية والحلولية أنهم لا يؤمنون بالله، فهذا تقرير هذا السؤال.
والجواب: أن الدليل دل على أن من قال إن الإله جسم فهو منكر للإله تعالى، وذلك لأن إله العالم موجود ليس بجسم ولا حال في الجسم، فإذا أنكر المجسم هذا الموجود فقد أنكر ذات الإله تعالى، فالخلاف بين المجسم والموحد ليس في الصفة، بل في الذات، فصح في المجسم أنه لا يؤمن بالله أما المسائل التي حكيتموها فهي اختلافات في الصفة، فظهر الفرق.
وأما إلزام مذهب الحلولية والحروفية، فنحن نكفرهم قطعًا، فإنه تعالى كفر النصارى بسبب أنهم اعتقدوا حلول كلمة {الله} في عيسى وهؤلاء اعتقدوا حلول كلمة {الله} في ألسنة جميع من قرأ القرآن، وفي جميع الأجسام التي كتب فيها القرآن، فإذا كان القول بالحلول في حق الذات الواحدة يوجب التكفير، فلأن يكون القول بالحلول في حق جميع الأشخاص والأجسام موجبًا للقول بالتكفير كان أولى.
والصفة الثانية: من صفاتهم أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر.
واعلم أن المنقول عن اليهود والنصارى: إنكار البعث الجسماني، فكأنهم يميلون إلى البعث الروحاني.
واعلم أنا بينا في هذا الكتاب أنواع السعادات والشقاوات الروحانية، ودللنا على صحة القول بها وبينا دلالة الآيات الكثيرة عليها، إلا أنا مع ذلك نثبت السعادات والشقاوات الجسمانية، ونعترف بأن الله يجعل أهل الجنة، بحيث يأكلون ويشربون، وبالجواري يتمتعون، ولا شك أن من أنكر الحشر والبعث الجسماني، فقد أنكر صريح القرآن، ولما كان اليهود والنصارى منكرين لهذا المعنى، ثبت كونهم منكرين لليوم الآخر.